الأحد، 10 يونيو 2012

صورة "الشوايا" وحال منطقة الجزيرة السورية - ياسين الحاج صالح

   

(تتمة)
ويشكل التحقير والتمثيلات المؤسسة له والإهمال الحكومي المديد للمنطقة دائرة مغلقة. فالإهمال يعزز تخلف المنطقة وتدهورها الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي.  قبل عامين زار السيد عبدالله الدردري، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، مدينة الرقة في سورية، وقال عنها إنها مدينة من الستينات. ليس محقا تماما. في مطلع سبعينات القرن العشرين كانت الرقة مدينة صغيرة فيها مدارس جيدة وتعليم ينتشر وحياة ثقافية معقولة جدا وخدمات تتحسن ومجتمع يتنوع ويتفتح. اليوم الرقة أسوأ بما لا يقاس على هذه المستويات جميعا. وهذا لم يأت من السماء. إنه وثيق الصلة بنوعية التعامل الاقتصادي والسياسي مع المدينة والمنطقة ككل. وما ينطبق على الرقة ينطبق ما يقاربه على دير الزور والحسكة والقامشلي. وهذا كله مرشح للتفاقم فقط في ظل الصيغة الجارية لتحرير الاقتصاد، المحابية للبرجوازية الجديدة، وثقافتها النخبوية الإقطاعية. وعليه يرجح للمنطقة أن تبقى خزانا للعمالة غير الماهرة الفائضة وللتدهور المادي والمعنوي لحياة سكانها المتزايدين.
السيد الضابط لم يخطئ كثيرا في تهديد المتضامنين مع مصر وليبيا بـ"إفلات" عناصره "الشوايا" عليهم. من الوقائع المعروفة في التاريخ الاجتماعي في أوربا ولدينا أن متحدرين من الأرياف، والمناطق الأكثر تخلفا وفقرا، أيسر من غيرهم استخداما كهراوة قمعية ضد الاحتجاجات الاجتماعية. لقد جرى شيء من ذلك، على كل حال، في سورية نفسها قبل أكثر من ثلاثين عاما في سياق الصراع العنيف بين النظام والإسلاميين.
على الاعتراض الحقوقي والسياسي على التمييز ضد "الشوايا" أن ينطلق من واقع أن بيئاتهم الاجتماعية هي فعلا الأشد بؤسا والأدنى تعليما والأقل تمدنا في سورية، وأن المطلوب ليس الخجل من قول أشياء سيئة عنهم، بل العمل على تغيير الواقع السيء الذي يعيشونه. مطلوب أيضا تبين الشروط السياسية والاقتصادية الكامنة وراء هذا الوضع، ومن هذه الشروط مستوى تمثيل المنطقة وسكانها في المؤسسات المحلية والمركزية، ومنها نوعية السياسات الاقتصادية والاجتماعية الممارسة هناك، ومنها تمثيل المنطقة أيضا في المناهج التعليمية وفي وسائل الإعلام. حيثما جرى تمثيل أحد من المنطقة في الدراما السورية كان التمثيل "استشراقيا"، يركز على اللهجة والزي والاختلاف، ويمنح صناع الدارما موقع العارفين المتفوقين حيال قوم بدائيين. ويضاف إلى ذلك ما سبقت الإشارة إليه من تمثيلات معرفية تجعل من "الشوايا" أناسا غير متحضرين، مفتقرين إلى العقل أو الحكمة، وإلى الترتيب والنظافة، سذجا وغافلين، ويتكاثرون كالأرانب. ولا يندر كذلك للأسف أن يمثل مثقفون من منطقة الجزيرة سكان المنطقة تمثيلا فلكلوريا بذريعة الواقعية، لكنهم عمليون يجمدون سمات تاريخية بعينها في صورة الهوية الثابتة للمنطقة وسكانها. 
من المهم التوضيح أن "الشوايا" عنوان لوضع اجتماعي متغير، وليس لهوية ثابتة. عموما يسقط الوضع الشاوي عن كثيرين حين يتعلمون ويسكنون المدن، ويسقط نهائيا عن أبنائهم المتعلمين. لكنه يبقى لصيقا بسكان الأرياف الأجلاف غير المتعلمين، وبخاصة الفقراء.  ليس "الشوابا" طائفة أو إثنية أو دينا، إنهم قطاع جهوي من السوريين، يتعرض لتمييز اجتماعي وثقافي، لا يمكن أن يكون مقبولا من وجهة نظر التكامل الوطني، أو المواطنة، أو الكرامة الإنسانية.   
ولقد ازداد هذا الشرط سوءا في السنوات الأخيرة بفعل تضافر عاملين: اتساع الفقر والبطالة و"التخلف" في المنطقة بفعل محاباة السياسات الاقتصادية الجديدة للمدن وتراجع دول الدولة الاجتماعي وتعاقب المواسم السيئة، ثم المناخ الإيديولوجي "الثقافوي" المتزايد الانتشار في سورية، الذي تتواتر الشواهد على أن مراتب الحكم العليا تفكر وفقا له، والذي رأينا منه عينة سفيهة، تمزج بين الفاشية والداروينية الاجتماعية. أعني بالثقافوية شرح الأوضاع الاجتماعية بالثقافة والذهنيات حصرا، بحيث يتحمل البؤساء مسؤولية بؤسهم، وليس بالاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها، مما يتعين أن تنهض به السياسات العام للدولة.
ولا ينبغي أن يكون مفاجئا أن وطأة التمييز والمعاناة الأقسى تقع على فقراء المنطقة أكثر من ميسوريها، وعلى النساء أكثر من الرجال، وعلى المضطرين للنزوح من قراهم وأراضيهم أكثر من المقيمين. الأضعف هم من يدفعون دوما ثمن الأوضاع الأسوأ. 
ولا نرى مخرجا من هذا الوضع غير سياسة تمييز إيجابي لمصلحة المنطقة على مستوى التعليم والتنمية، إلى حين تقرب مؤشراتها الخاصـة بالتعليم ومستويات الحياة من المستوى الوطني العــام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق