لم
يجد ضابط برتبة عميد في قوات حفظ النظام السورية ما يهدد به محتجين في دمشق على
جرائم النظام الليبي بحق شعبه غير "إفلات" عناصره "الشوايا"
عليهم. كان هذا مساء 23 شباط 2011. قبله بثلاثة أسابيع، وُجِّه تهديد مماثل، ربما
من الضابط نفسه، إلى متضامنين مع الثورة المصرية حاولوا الوقوف قريبا من السفارة
المصرية قبل سقوط مبارك. وقتها حذر الضابط المتضامنين بأن عناصره الشوايا
سـ"يأكلونهم" إن هو "أفلتهم" عليهم.
"الشوايا"
اسم قلما يتبناه المعنيون المفترضون به من سكان أرياف منطقة الجزيرة السورية،
الرقة ودير الزور والحسكة، شمال شرق البلاد. وهم عرب مسلمون، موزعون على عشائر
متنوعة، ويتمايزون عن البدو من جهة، وعن الحضر من سكان المدن من جهة ثانية. ولقد
عرفت حتى أربعينات القرن العشرين صراعات عنيفة بين الشوايا المستقرين وبين البدو،
كانت تسمى "حرب البدو والشوايا". كان الأخيرون فلاحين عموما ومربي
مواشي. اليوم كثيرون منهم عمالة غير ماهرة، في البناء والزراعة خارج منطقتهم.
ولقد
كانت نظرة مدن الجزيرة بالذات، ودير الزور بخاصة، استعلائية حيال الشوايا. وكانت
محنة للشاوي أن يزور المدينة حتى خمسينات القرن العشرين. كان هذا الوضع مشتركا بين
سكان الأرياف في سورية حتى نحو نصف قرن تقريبا، لكن "الشوايا" هم
المجموعة السكانية الوحيدة التي لا تزال تواجه بأحكام تبخيسية جدا في النطاق
السوري العام، على نحو ما يفيد كلام الضابط. أما في مدن الجزيرة ذاتها، فالشوايا
جزء كبيرة من سكانها اليوم.
لم
يأت من فراغ كلام سيادة الضابط الذي يضمر احتقارا شديدا للشوايا واعتبارهم وحوشا
أو كلاب حراسة. الواقع أن منطقة الجزيرة هي الأقل نموا ً والأشد فقرا ً والأدنى
تعليما ً في سورية. والزيادة السكانية فيها أعلى من غيرها. هذا بينما تعاني
المنطقة من عوز متفاقم في مياه الري بسبب الاستثمار المفرط للمياه الجوفية، تولد
هو ذاته عن التوسع الشديد في زراعة القطن بين ستينات القرن العشرين وتسعيناته.
ولقد تسبب هذا الوضع المركب من إهمال حكومي وزيادة سكانية ونقص المياه، بخاصة في
السنوات الأربعة الأخيرة، في نزوح ما يزيد على 300 ألف من سكان المنطقة إلى ضواحي
المدن الأكبر، أو إلى لبنان. وهم حيث حلوا يشكلون عمالة متدنية المهارة، تتدبر
أمرها بالكاد من أعمال رثة. ويقدر أن مليونا و300 ألف متضررون من موجة الجفاف التي
تصيب المنطقة وسوريا ككل منذ أربع سنوات.
وبحكم
هذا الوضع المزمن استبطن كثير من الشوايا مشاعر الدونية، وتقبلوا أنهم أقل شأنا ً
من غيرهم، وما يقال عنهم من بدائية وخشونة.
والواقع
أن جانبا ً من مشكلة الجزيرة السورية يعود إلى التمثيلات المعرفية شبه
الاستشراقية، الرائجة في أوساط سورية واسعة حيال سكان المنطقة. إنهم متخلفون،
راضخون، عنيفون، جهلة، لا يعرفون كيف يعبرون عن أنفسهم، وفي المحصلة فإن مرتبتهم
الإنسانية أدنى من غيرهم، الأمر الذي يبيح إساءة معاملتهم.
عن
سكان الجزيرة، استطاع مهندس سوري أن يكتب قبل حين: "ولنكن
صريحين، لسنا مستعدين لمنح أُناس غير حضاريين لا هم لهم إلا إنجاب من 8-15 ولد
وأكثر مساعدات من أموالنا ما داموا لا يتصرفون بروح عاقلة ومنطقية وبطريقة حكيمة
مع مقدراتهم، وهم السبب بفقر أنفسهم بسبب انعدام الحكمة وقيامهم بهدر أموالهم
وثرواتهم في أعوام الخير على تفقيس وتفريخ الأولاد"
(أمجد جاد الله، نشرة كلنا شركاء الإلكترونية، 30/11/2010). هذا الكلام العنصري
النازع لإنسانية من يتكلم عليهم، لم يأت من فراغ بدوره. إنه مرتبط بمناخ فكري عام
يزداد انتشارا في البلد مع لبرلة الاقتصاد المشوهة الجارية، كلام يُحمّل الفقراء مسؤولية
فقرهم، ويعيد مشكلات البلاد إلى انغلاق أذهان الناس أو إلى كونهم غير متحضرين، أو
إلى الزيادة السكانية وحدها. أكثر وأكثر يجري في سورية اليوم شحن الفوارق الطبقية
بدلالات ثقافية، فتمسي من نوع الفوارق بين إقطاعيين وأقنان، أو أرستقراطيين وعوام.
ويعفى من المسؤولية، بالمقابل، نمط ممارسة السلطة وصيغة إدارة وتوزيع الموارد
الوطنية، وكذلك "المتحضرين" و"الحكماء" من أمثال الدعي كاتب
النص المذكور، هذا الذي لا يريد أن يمنح أمواله لأناس غير حضاريين. الرجل المتحضر
يكمل كلامه كالتالي: "فلا نريد أن تتحول أرضنا وبلادنا الجميلة لبلاد
منكوبة بالفقر و الجموع التي لا عمل لها تنقلب لمجموعة من القتلة والهاملين على
الطرقات والشحّادين على المفترقات". طبعا لا يخطر ببال هذا الفاشي الصغير أن فقر سكان المنطقة
ليس شيئا طبيعيا ً، وأنه مرتبط بتقسيم عمل جهوي وبانحيازات إدارية وتنموية مضادة
للريف والمناطق الأقل نموا ً، وبسياسات اقتصادية مفقرة. وأن "أمواله"
تحصلت في ظل تركيب اقتصادي وسياسي تشغل فيه منطقة الجزيرة موقع العالم الثالث
الداخلي للبلد العالم ثالثي الذي اسمه سورية. الأمر الذي يعني أنه شخصيا مستفيد من
هذا الوضع الذي يتضرر منه الأشد فقرا ًمن سكان الجزيرة.
في
واقع الأمر، قد تكون الجزيرة أغنى مناطق البلاد، بفضل النفط والقمح والقطن، وحتى
بالماء (نهر الفرات وبحيرة سد الفرات). لكن تضافر مفاعيل المركزية السياسية
والإدارية الشديدة، والتأخر التعليمي والاجتماعي للمنطقة، وتوجس متوارث من السلطات
حيال سكانها العرب (مشتبه بولائهم للنظام العراقي السابق) والكرد
("انفصاليون")، ونظام نهب وإفقار عام، يتعامل مع الجزيرة تحديدا
كمستعمرة داخلية، مستغلة ماديا ومحتقرة ثقافيا أكثر من غيرها في سورية، فوق كونها
مضطهدة سياسية مثل غيرها في سورية، كل ذلك جعلها أشد مناطق البلاد فقراً وتدهورا ً.
وليست
تلك التمثيلات العنصرية نادرة. على الفيسبوك يجد المرء غير صفحة تنز استعلاء
عنصريا حيال "الشوايا". منها للأسف صفحة لطلاب جامعيين، بعنوان:
"مكافحة الشوايا في جامعة دمشق". ولها منشئ ومدير يبدو اسماهما حقيقيان.
وهناك تعليقات تنضح بالتعالي والاحتقار، أسماء أصحابها تبدو حقيقية أيضا. هذا لأن
كثيرين اعتادوا أن الشوايا لا شيء، ويمكن قول وفعل أي شيء بحقهم دون خجل وبحصانة
معنوية وقانونية تامة. وهناك مجموعة أخرى بعنوان فاشي صريح: "معا للقضاء على
الشوايا". ومجموعة ثالثة، صفحتها مغلقة دون غير الأعضاء، اسمها يداً
واحدة لجعل الزراعة خالية من الشوايا". ويبدو أن المقصود إخلاء حي الزراعة في
مدينة اللاذقية من ساكنين
"شوايا".
*يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق